ليست المرة الأولى التي تُلقي إحدى موجات الثورة زجاجات المولوتوف الحارقة في مواجهاتها مع السلطة، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. فهناك دم سال على خطوط المواجهات وفي أقبية السلطة، وهناك ثورة لم تخمد لأنها عصية على القمع، وتمرد لا يهدأ لأن السلطة لم تتغير. تدعي السلطة الحاكمة وجهاز الدولة (ويجادل بعض المثقفين) أن هذه الموجة الأخيرة من الثورة هي أكثرها لاعقلانية وعنفاً، ولا تعرف ماذا تريد. ويرون أنها تحيد عن مسار الثورة السلمي والراقي. وبالطبع تُتهم بالعمالة والتمويل الخارجي أو الداخلي من بقايا فلول النظام السابق. هذه الادعاءات ليست جديدة في شيء. فلقد كانت هي الأخرى حاضرة منذ اليوم الأول، تماماً مثلما كان المولوتوف حاضراً.
خطاب الثورة المضادة
كيف يمكن فهم الموجة الثالثة من الثورة المصرية، بل كيف يمكن فهم الثورة ذاتها؟ ادعاء أن الثورة بلا أهداف وقيم، وأنها تعرف ما لا تريد، ولا تعرف ماذا تريد، هو صلب خطاب الثورة المضادة لنزع أي تلاحم حقيقي معها، ولتصويرها كعمل أحمق وغاضب فقط، لا ينبغي الالتفات إليه لأنه ببساطة لا يمكن إرضاؤه، فهو نفسه لا يعرف أهدافه. واختزال الثورة بإسقاط مبارك، وأنها مجرد حدث لفتح عملية الاصلاح، أمر يعكس انتهازية سياسية وكرها دفينا لدى الاصلاحيين لأي تحول جذري في المجتمع يهدد منظومة السلطة ككل، ما يطيح بدورهم ومكانتهم وسلطتهم ونمط ممارسة السلطة الذي اعتادوا عليه، ويحقق لهم مصالحهم. وبالطبع ينذر بانقلاب في علاقات الإنتاج ونمطها، وبالضرورة بتغير طبقي واسع.
الثورة بلورت قيما وليس برنامجاً
يقيناً لم تبلور الثورة برنامجا سياسيا واضحا، له استراتيجية وأدوات ومدى زمني. ولن تبلور، لأنه ضد النموذج الكامن بها. لكنها بلورت قيما واضحة وأهدافا صريحة ورؤية لما تريد وتنشد. وهذه الأهداف كامنة في كل تحركات الثورة منذ اليوم الأول. وعبرت عنها ميادين مصر وشوارعها بالفعل المباشر لا بالقول. لكن ربما يمكن القول ان الثورة لم تستطع حتى الآن بلورة خطاب سياسي ومجتمعي عميق يعكس النموذج الكامن بها ويتجسد في تحركاتها.
سحق البنية الأمنية واسترداد المدينة
بدأت الموجة الأولى من الثورة في مطلع 2011 في المدينة، عند أقسام الشرطة ومقار الحزب الوطني وبعض المجالس المحلية ومباني المحافظات، ثم تجسدت في موجة من الإضرابات العمالية. وعكست ثلاثة أهداف واضحة: سحق البنية الأمنية التي سحلت وعذبت المواطنين وسيطرت على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وصادرت حريتهم. الثاني استرداد المدينة والمجال العام من الدولة والأمن والنظام الحاكم. والثالث العدالة الاجتماعية وتحسين أوضاع المعيشة وتمرد على نمط معين من الإنتاج وعلاقاته. وتضافرت التحركات والأهداف الثورية حول قيمة الكرامة والتنوع. فمنظومة الأمن وجهاز الدولة لطالما أذلت المواطن وقامت بسحق جسده وكرامته وسلب المجال العام وحق الاختلاف والتنوع، وحرَّمت على المواطنين المدينة، سواء بعزل شرائح اجتماعية منها وتهميشها، أو من خلال عمليات الخصخصة الواسعة للفضاءات العامة، أو بالمنع الأمني للتواجد والتجمع. وقاد نمط الاقتصاد الخدمي إلى تدهور الوضع المجتمعي والإنتاجي لمصر، وسخّر قطاعات واسعة من المواطنين في أعمال تتسم بامتهان كرامتهم وغياب الأمن الاجتماعي لهم، لعدم استقرار نوعية الوظائف. وقضت الخصخصة على الضمان المعيشي، وتسلط رأس المال على الأفراد ورسخ الفقر والهوة الطبقية بين الشرائح المختلفة. هذا بالإضافة إلى تضخم معدلات البطالة. واتسمت تلك الموجة إما بسحق أبنية السلطة (تدميرها واحراقها) أو بالحفاظ عليها ظناً بإمكان الاستفادة منها في ما بعد.
الرغبة في التنوع وترسيخ قيم الاختلاف
وعكست ميادين مصر الرغبة في التنوع والتعدد وترسيخ قيمة الاختلاف والتباين على عكس ما يظن البعض من أنها كانت لحظات من التوحد والذوبان. فلقد ظلت الهويات المختلفة حاضرة ولم تتلاش. لكنها جعلت في محل التفاوض والتبادل لا في محل الاستعلاء ومحاولات السحق والهيمنة. فلقد كانت الموجة الأولى من الثورة لحظة تشبيك وتنوع لا انصهار. وكانت قيمة التعايش المشترك حاضرة بقوة مثلما تجسدت في ميدان التحرير حيث كان يتسع للجميع، سواء كان الاختلاف على أساس طبقي أو عقائدي أو فكري وسياسي. ولم تكن حالة خيالية. فقد كانت مليئة بالدم والعنف والاختلاف والصراع. وربما قلل التوحد على عدو مشترك من حدة الانقسامات، ولكن ظلت قيمة ترسيخ التنوع كقيمة متجلية في ذاتها ولذاتها.
احترام الجسد، البديل المنشود
وتجلت قيمة الجسد واحترامه بارزة بشدة لتطرح البديل المنشود في التعامل معه وكمحاولة للمفارقة مع النظام والمجتمع القديم. ولا يمكن إنكار حدوث حالات من التحرش، ومنها واقعة الصحافية الأميركية المشهورة. لكن نمطاً جديداً حاول طرح نفسه، لخلق مجتمع مغاير، وهو ما لا يعني حدوث قطيعة كاملة وناجحة مئة بالمئة. ولم تكن تلك الموجة عقلانية وسلمية ورشيدة وخالصة، كما يحاول البعض أن يدعي. لكن كان لها منطقها الخاص. وتقييم الأمور على أساس عقلاني أو لاعقلاني هو أمر حداثي ومعياري في المقام الأول. وهو يفترض وجود مقياس علمي واضح لقياس الفعل الإنساني. ويجب الخروج من تلك الثنائية إذا أردنا فهم الأشياء وطبيعة تحركها من منطلقها الذاتي لا بقياسها على منطق وحسابات مسبقة. وقام خطاب الثورة المضادة على اللعب على أوتار تلك الثنائيات، لشيطنة الثورة في البداية ثم لاستثنائها في مراحل لاحقة. وكانت أبرز وأنجح عمليات ذلك الخطاب هي تصوير كل ما هو خطر حقيقي على السلطة بالغوغائية والشغب والعنف. وهو نجح في تهميش جانب كبير من الفعل الثوري، مثل حرق أقسام الشرطة أو ما قام به الشباب لهزيمة قوات الأمن المركزي في شوارع المدن، والذي لم يهزم بالقبلات! ويحاول هذا الخطاب منع أي حق في الدفاع عن النفس ضد توحش عنف الدولة. وهو بالمقابل يبرر فعل هذه الأخيرة.
الموجة الثانية: ضد نمط السلطة الامنية
وللموجة الثانية من الثورة التي انفجرت مع أحداث محمد محمود الأولى في تشرين الثاني 2011، في ظل حكم العسكر، سمات شديدة الخصوصية والتعقيد. فلقد كانت موجة خالصة ضد نمط السلطة الأمنية والمعسكرة. وكان الصراع يتمحور حول كسر تلك السلطة بكل وسائل الصمود والتضحية الجسدية، في معركة غير متكافئة أدت إلى رمي جثث الثوار بجوار صناديق القمامة. وشهدت الموجة الثانية ذروة العداء للنخب السياسية، حيث أثبتت فشلها وتقاعسها. وانفصل فيها السياسي عن العمل الميداني الثوري بشكل جذري. وكانت الحرب الضروس تدور حول حماية الميدان وحقوق الشهداء وأسرهم من بطش المنظومة الأمنية. وتسببت تلك الموجة في افتراق الثوار عن جماعة الاخوان المسلمون بشكل جذري، حيث رأى أغلب الثوار أن الجماعة قد باعت الميدان لمصلحة البرلمان. وهو الأمر الذي ترسخ عبر كل من أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء التي أعقبت معركة محمد محمود بأسبوع واحد فقط، حينما فض العسكر الاعتصام بقدر مبالغ به من العنف والقتل.
تحدي مهابة الموت
وكان أخطر ما في تلك الموجة هي تحدي الثوار للسلطة بعدم مهابة الموت. وتم فضح العسكر ومقاومة هيمنتهم على مفاصل الدولة والاقتصاد ونزع شرعية «دولة يوليو»، وسعت لتفكيك عسكرة الدولة والسلطة. وتجلى الانقسام الجيلي والمعرفي بين أجيال الثوار الشابة والأجيال القديمة. حيث كان خطاب هيبة الدولة، والأمن والاستقرار، ودور الجيش المصري العظيم، وعدم إمكانية نقده أو المساس به قادر على إقناع شرائح واسعة من «البالغين» في المجتمع بمختلف طبقاتهم. وكان قادراً على خلق هيمنة فكرية ووجدانية عالية. وعلى النقيض، لم يكن هذا الخطاب يحرك ساكناً لدى أغلب الأجيال الشابة، حتى في أوساط قطاعات إسلامية كثيرة، مثل السلفية الجهادية، والمستقلين، وحتى داخل شريحة واسعة من شباب الإخوان.
الموجة الثالثة: من الجدران وإليها
يبدأ فهم الموجة الثالثة من عند جدران السلطة. فالموجة بدأت في ذكرى محمد محمود الأولى (أي بدءاً من 19 تشرين الثاني 2012 ) وامتدت تبعاتها حتى الذكرى الثانية للثورة ذاتها، اي ما نشهده اليوم. وهي بدأت في كليهما عند جدران الأمن وانتهت عند جدران قصر الرئاسة. وبعيداً عن الفكر الأمني، وتجلياته في الممارسة والتعامل مع الأمور السياسية والاجتماعية، تعكس الجدران المحيطة بميدان التحرير ومنطقة وسط البلد واقع الثورة وعلاقتها بالسلطة. فالثورة نجحت في عزل السلطة عن المدينة بشكل مباشر وجعلتها محاصرة داخل جدرانها وضيقت عليها الخناق. لكن السلطة هي الأخرى نجحت في تأمين نفسها وعزلها عن نيران الثورة والتغير الجذري داخل بنيتها. ونجح خطاب الثورة المضادة في شيطنة كل تحرك نحو جدران السلطة ووصفه بأنه خطر على الدولة ويسعى للفوضى والعنف. وينتظر الأمن بدوره لحظات الاقتراب هذه للضرب بعنف وقسوة، حيث لم يعد قادرا على مواجهة الثورة عسكرياً في المدينة، ولم يعد يمكنه القتال إلا وظهره لمؤسسته أو مؤسسات الدولة، متذرعاً بحمايتها من الهدم.
وتتسم الموجة الثالثة بالزحف على مؤسسات الدولة ومقرات الحزب الحاكم. وفي القاهرة زحف الثوار في البداية على الأسوار التي تحيط بوزارة الداخلية، بالأخص بعد تحرش الأمن بهم، ثم قاموا بالزحف مرتين على قصر الرئاسة، الأولى بعد ذكرى محمد محمود والثانية في ذكرى الثورة. كان الاشتباك مع خط الثورة الأولى متجسداً في المعركة مع المنظومة الأمنية.
وكان ذلك هو الحال في محافظات كثيرة. ففي الإسكندرية زحف الثوار على المجلس المحلي، وهم يعلمون يقيناً بوجود الأمن هناك، ولم يكن الهدف هو حرق المجلس أو تخربيه، ولكن إعلان رفض سلطة الإخوان وقبح جهاز الدولة المتجسد في المجلس المحلي ومنزل المحافظ، بالإضافة إلي رفض الممارسات الأمنية، والتعبير عن ضيق وغضب الثوار من عدم تغير تلك المؤسسات، ومحاسبة قتلة الثوار من جهاز الشرطة. وفي السويس كانت المعركة أكثر مباشرة مع الأمن حيث حاصر الثوار مديرية الأمن هناك للتعبير عن غضبهم من عدم محاسبة القتلة واستمرار الممارسات الأمنية نفسها، وعدم تغير السلطة بشكل عام. واتسمت تحركات بقية المحافظات بالسمات نفسها.
وخلاصة الموجة الثالثة هي الزحف على مراكز السلطة لأنها لم تتغير، ومواجهة الشرطة لأن الثأر لم يؤخذ. وهي رسالة واضحة ضد احتكار السلطة من قبل الإخوان المسلمين، كما تتمثل في المحافظات والمجالس المحلية. فاحتكار السلطة وعدم محاسبة القتلة وتكرار النمط القديم في الممارسة هي وقود تلك الموجة. ولهذا، فقد كان الغضب حاضراً والعنف مشتعلاً، وبالأخص لأن النظام لم يلجأ لأي معالجات غير تلك الأمنية، بل جاءت المعالجات الأمنية بالطريقة القديمة نفسها المتمثلة بالوحشية والعنف والسحل. وتكرر المشهد نفسه: غاز ودموع وطلقات الخرطوش، وبالطبع كان أبطال المشهد هم الأمن المركزي وزجاجات المولوتوف.
[عن "السفير العربي"]